فصل: فصــل في منشأء النزاع والاشتباه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


/وقال ـ رحمه الله‏:‏

 فصــل

في بيان أن القرآن العظيم كلام الله العزيز العليم، ليس شيء منه كلامًا لغيره لا جبريل ولا محمد ولا غيرهما، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّت الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏98 ـ 103‏]‏‏.‏

فأمره أن يقول‏:‏‏{‏نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏، فإن الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ‏}‏ عائد على مافي قوله‏:‏ ‏{‏بِمَا يُنَزِّلُ‏}‏ والمراد به القرآن، كما يدل عليه سياق الكلام وقوله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ‏}‏ فيه إخبار الله بأنه أنزله، لكن ليس في هذه اللفظة بيان أن روح القدس نزل به، ولا أنه منزل منه‏.‏

ولفظ ‏[‏الإنـزال‏]‏ فـي القـرآن قـد يـرد مقيـدًا بـالإنـزال منـه؛ كنـزول القـرآن، وقـد يـرد مقيـدًا بالإنـزال مـن السمـاء ويـراد بـه العلـو؛ فيتنـاول نـزول المطر مـن السحـاب، ونـزول المـلائكة مـن عنـد الله وغيـر ذلك، وقـد يـرد مطلقًا فـلا يختـص بنـوع مـن الإنـزال، بـل ربما يتناول الإنـزال مـن رؤوس الجبــال، كقـوله‏:‏ ‏{‏وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ‏}‏ ‏[‏الحـديـد‏:‏25‏]‏، والإنـزال مـن ظهـور الحيوان كإنـزال الفحـل الماء وغيـر ذلـك‏.‏ فقـولـه‏:‏ ‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحـل‏:‏102‏]‏، بيـان لنـزول جبـريـل بـه مـن الله؛ فـإن روح القـدس هنا هو جبـريـل؛ بـدليـل قـوله‏:‏‏{‏قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏97‏]‏ وهـو الـروح الأمين كمـا فـي قـولـه‏:‏‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الشعـراء‏:‏192ـ 195‏]‏، وفـي قـولـه‏:‏ ‏{‏الأمين‏}‏ دلالــة علـى أنـه مؤتمن علـى مـا أرسـل بـه، لا يزيد فيه ولا ينقص منـه؛ فـإن الرسول الخائن قد يغير الـرسـالة ـ، كما قـال في صفتـه في الآيـة الأخـرى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19ـ 21‏]‏‏.‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏411‏]‏ دلالة على أمور‏:‏

منها‏:‏ بطلان قول من يقول‏:‏ إنه كلام مخلوق خلقه في جسم / من الأجسام المخلوقة كما هو قول الجهمية الذين يقولون بخلق القرآن من المعتزلة والنجارية والضرارية وغيرهم؛ فإن السلف كانوا يسمون كل من نفى الصفات وقال‏:‏ إن القرآن مخلوق وإن الله لا يرى في الآخرة جهميًا؛ فإن جهما أول من ظهرت عنه بدعة نفي الأسماء والصفات، وبالغ في نفي ذلك، فله في هذه البدعة مزية المبالغة في النفي والابتداء بكثرة إظهار ذلك والدعوة إليه، وإن كان الجعد بن درهم قد سبقه إلى بعض ذلك‏.‏

فإن الجعد بن درهم أول من أحدث ذلك في الإسلام؛ فضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط يوم النحر‏.‏ وقال‏:‏ يأيها الناس، ضحوا، تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍ بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليمًا، تعالى الله عما يقول الجعد بن درهم علوًا كبيرًا‏.‏ ثم نزل فذبحه‏.‏ ولكن المعتزلة وإن وافقوا جهما في بعض ذلك فهم يخالفونه في مسائل غير ذلك؛ كمسائل القدر والإيمان، وبعض مسائل الصفات أيضًا، ولا يبالغون في النفي مبالغته‏.‏

وجهم يقول‏:‏ إن الله ـ تعالي ـ لا يتكلم‏.‏ أو يقول‏:‏ إنه يتكلم بطريق المجاز، وأما المعتزلة فيقولون‏:‏ إنه يتكلم حقيقة، لكن قولهم في المعنى هو قول جهم، وجهم ينفي الأسماء أيضا، كما نفتها الباطنية ومن وافقهم من الفلاسفة، وأما جمهور المعتزلة فلا ينفون الأسماء‏.‏

/ والمقصود أن قوله‏:‏ ‏{‏مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ‏}‏ فيه بيان أنه منزل من الله لا من مخلوق من المخلوقات؛ ولهذا قال السلف‏:‏ منه بدأ، أي‏:‏ هو الذي تكلم به لم يبتدأ من غيره، كما قالت الخلقية‏.‏

ومنها‏:‏ أن قوله‏:‏ ‏{‏مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ‏}‏ فيه بطلان قول من يجعله فاض على نفس النبي صلى الله عليه وسلم من العقل الفعال أو غيره، كما يقول ذلك طوائف من الفلاسفة والصابئة، وهذا القول أعظم كفرًا وضلالا من الذي قبله‏.‏

ومنها‏:‏ أن هذه الآية ـ أيضًا ـ تبطل قول من يقول‏:‏ إن القرآن العربي ليس منزلا من الله بل مخلوق؛ إما في جبريل أو محمد أو جسم آخر غيرهما، كما يقول ذلك الكلابيـة والأشعرية، الذين يقولون‏:‏ إن القرآن العربي ليس هو كلام الله، وإنما كلامه المعنى القائم بذاته، والقرآن العربي خلق ليدل على ذلك المعنى، ثم إما أن يكون خلق في بعض

الأجسام ـ الهواء أو غيره ـ أو ألهمه جبريل فعبر عنه بالقرآن العربي، أو ألهمه محمد فعبر عنه بالقرآن العربي، أو يكون أخذه جبريل من اللوح المحفوظ أو غيره، فهذه الأقوال التي تقدمت هي تفريع على هذا القول؛ فإن هذا القرآن العربي لابد له من متكلم تكلم به أولاً قبل أن يصل إلينا‏.‏

/ وهذا القول يوافق قول المعتزلة ونحوهم في إثبات خلق القرآن العربي، وكذلك التوراة العبرية، ويفارقه من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن أولئك يقولون‏:‏ إن المخلوق كلام الله، وهؤلاء يقولون‏:‏ إنه ليس كلام الله، لكن يسمى كلام الله مجازًا، وهذا قول أئمتهم وجمهورهم‏.‏ وقالت طائفة من متأخريهم‏:‏ بل لفظ الكلام يقال على هذا وهذا بالاشتراك اللفظي، لكن هذا ينقض أصلهم في إبطال قيام الكلام بغير المتكلم به، وهم مع هذا لا يقولون‏:‏ إن المخلوق كلام الله حقيقة، كما تقوله المعتزلة مع قولهم‏:‏ إنه كلامه حقيقة، بل يجعلون القرآن العربي كلاما لغير الله وهو كلام حقيقة، وهذا شر من قول المعتزلة، وهذا حقيقة قول الجهمية‏.‏ ومن هذا الوجه، فقول المعتزلة أقرب وقول الآخرين هو قول الجهمية المحضة، لكن المعتزلة في المعنى موافقون لهؤلاء، وإنما ينازعونهم في اللفظ‏.‏

الثاني‏:‏ أن هؤلاء يقولون‏:‏ لله كلام هو معنى قديم قائم بذاته، والخلقية يقولون‏:‏ لا يقوم بذاته كلام‏.‏ ومن هذا الوجه، فالكلابية خير من الخلقية في الظاهر، لكن جمهور الناس يقولون‏:‏ إن أصحاب هذا القول عند التحقيق لم يثبتوا له كلاما حقيقة غير المخلوق؛ فإنهم يقولون‏:‏ إنه معنى واحد هو الأمر والنهي والخبر؛ فإن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان / إنجيلا‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ هو خمس معان‏.‏

وجمهور العقلاء يقولون‏:‏ إن فساد هذا معلوم بالضرورة بعد التصور التام، والعقلاء الكثيرون لا يتفقون على الكذب وجحد الضرورات من غير تواطؤ واتفاق؛ كما في الأخبار المتواترة‏.‏ وأما مع التواطؤ فقد يتفقون على الكذب عمدا، وقد يتفقون على جحد الضرورات وإن لم يعلم كل منهم أنه جاحد للضرورة، ولو لم يفهم حقيقة القول الذي يعتقده لحسن ظنه فيمن يقلد قوله، ولمحبته لنصر ذلك القول، كما اتفقت النصارى والرافضة وغيرهم من الطوائف على مقالات يعلم فسادها بالضرورة‏.‏

وقال جمهور العقلاء‏:‏ نحن إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك معنى القرآن، بل معاني هذا ليست معاني هذا، ومعاني هذا ليست معاني هذا، وكذلك معنى‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏الإخلاص‏:‏1‏]‏ ليس هو معنى ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏1‏]‏ ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين‏.‏ وقالوا‏:‏ إذا جوزتم أن تكون الحقائق المتنوعة شيئًا واحدًا، فجوزوا أن يكون العلم والقدرة والكلام والسمع والبصر صفة واحدة، فاعترف أئمة هذا القول بأن هذا الإلزام ليس لهم عنه جواب عقلي‏.‏

/ثم منهم من قال‏:‏ الناس في الصفات إما مثبت لها وقائل بالتعدد، وإما ناف لها، وأما إثباتها واتحادها فخلاف الإجماع‏.‏ وهذه طريقة القاضي أبي بكر وأبي المعالي وغيرهما‏.‏ ومنهم من اعترف بأنه ليس له عنه جواب، كأبي الحسن الآمدي وغيره‏.‏

والمقصود هنا أن هذه الآية تبين بطلان هذا القول، كما تبين بطلان غيره، فإن قوله‏:‏‏{‏قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏102‏]‏ يقتضى نزول القرآن من ربه، والقرآن اسم للقرآن العربي لفظه ومعناه، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏98‏]‏ وإنما يقرأ القرآن العربي لا يقرأ معانيه المجردة‏.‏ وأيضًا، فضمير المفعول في قوله‏:‏‏{‏نَزَّلَهُ‏}‏ عائد على مافي قوله‏:‏ ‏{‏وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏101‏]‏ فالذي أنزله الله هو الذي نزله روح القدس، فإذا كان روح القدس نزل بالقرآن العربي لزم أن يكون نزله من الله، فلا يكون شيء منه نزله من عين من الأعيان المخلوقة، ولا نزله من نفسه‏.‏

وأيضا، فإنه قال عقيب هذه الآية‏:‏‏{‏وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏103‏]‏ وهم كانوا يقولون‏:‏ إنما يعلمه هذا القرآن العربي بشر، لم يكونوا يقولون‏:‏ إنما يعلمه بشر معانيه فقط، بدليل قوله‏:‏ ‏{‏لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ‏}‏، فإنه ـ تعالى ـ أبطل قول الكفار بأن / لسان الذي ألحدوا إليه، بأن أضافوا إليه هذا القرآن، فجعلوه هو الذي يعلم محمدًا القرآن لسان أعجمي، والقرآن لسان عربي مبين، وعبر عن هذا المعنى بلفظ ‏{‏يلحدون‏}‏ لما تضمن من معني ميلهم عن الحق وميلهم إلى هذا الذي أضافوا إليه هذا القرآن، فإن لفظ ‏[‏الإلحاد‏]‏ يقتضى ميلاً عن شيء إلى شيء بباطل، فلو كان الكفار قالوا‏:‏ يعلمه معانيه فقط لم يكن هذا ردًا لقولهم؛ فإن الإنسان قد يتعلم من الأعجمي شيئًا بلغة ذلك الأعجمي، ويعبر عنه هو بعبارته‏.‏

وقد اشتهر في التفسير أن بعض الكفار كانوا يقولون‏:‏ هو تعلمه من شخص كان بمكة أعجمي‏.‏ قيل‏:‏ إنه كان مولى لابن الحضرمي، وإذا كان الكفار جعلوا الذي يعلمه ما نزل به روح القدس بشرًا، والله أبطل ذلك بأن لسان ذلك أعجمي وهذا لسان عربي مبين، علم أن روح القدس نزل باللسان العربي المبين، وأن محمدًا لم يؤلف نظم القرآن بل سمعه من روح القدس، وإذا كان روح القدس نزل به من الله، علم أنه سمعه منه ولم يؤلفه هو، وهذا بيان من الله أن القرآن الذي هو اللسان العربي المبين، سمعه روح القدس من الله ونزل به منه‏.‏

ونظير هذه الآية قوله تعالى‏:‏‏{‏وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ‏}‏ إلى قوله‏:‏‏{‏فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏112‏]‏، وكذلك قوله‏:‏ ‏{‏أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، و ‏[‏الكتاب‏]‏ اسم للقرآن العربي بالضرورة والاتفاق؛ فإن الكلابية أو بعضهم يفرق بين كلام الله وكتاب الله، فيقول‏:‏ كلامه هو المعنى القائم بالذات وهو غير مخلوق، وكتابه هو المنظوم المؤلف العربي، وهو مخلوق‏.‏

و ‏[‏القرآن‏]‏ يراد به هذا تارة وهذا تارة، والله ـ تعالى ـ قد سمى نفس مجموع اللفظ والمعنى قرآنًا وكتابًا وكلامًا، فقال تعالى‏:‏‏{‏الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏‏{‏طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏1‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏29، 30‏]‏ فبين أن الذي سمعوه هو القرآن وهو الكتاب، وقال‏:‏‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏21، 22‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ‏}‏‏[‏الواقعة‏:‏77، 87‏]‏ وقال‏:‏‏{‏يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ‏}‏ ‏[‏البينة‏:‏2، 3‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏1 ـ 3‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏7‏]‏‏.‏

ولكن لفظ الكتاب قد يراد به المكتوب فيكون هو الكلام، وقد يراد به ما يكتب فيه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏13‏]‏‏.‏

/ و المقصود هنا أن قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً‏}‏ يتناول نزول القرآن العربي على كل قول‏.‏ وقد أخبر‏:‏‏{‏وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏ إخبار مستشهد بهم لا مكذب لهم، وقال‏:‏ إنهم يعلمون ذلك ولم يقل‏:‏ إنهم يظنونه أو يقولونه، والعلم لا يكون إلا حقًا مطابقًا للمعلوم، بخلاف القول والظن الذي ينقسم إلى حق وباطل، فعلم أن القرآن العربي منزل من الله لا من الهواء، ولا من اللوح، ولا من جسم آخر، ولا من جبريل، ولا من محمد ولا غيرهما، وإذا كان أهل الكتاب يعلمون ذلك فمن لم يقر بذلك من هذه الأمة كان أهل الكتاب المقرون بذلك خيرًا منه من هذا الوجه‏.‏

وهذا لا ينافي ما جاء عن ابن عباس وغيره من السلف في تفسير قوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ‏}‏ ‏[‏القدر‏:‏1‏]‏ أنه أنزله إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أنزله بعد ذلك مُنَجَّمًا مفرقًا بحسب الحوادث، ولا ينافي أنه مكتوب في اللوح المحفوظ قبل نزوله، كما قـال تعالى‏:‏ ‏{‏بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ‏}‏ ‏[‏البروج‏:‏ 21،22‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ‏}‏‏[‏الواقعة‏:‏77، 87‏]‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاء ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ‏}‏ ‏[‏عبس‏:‏11ـ 16‏]‏ وقال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏4‏]‏ /فإن كونه مكتوبًا في اللوح المحفوظ، وفي صحف مطهرة بأيدي الملائكة، لا ينافي أن يكون جبريل نزل به من الله، سواء كتبه الله قبل أن يرسل به جبريل أو بعد ذلك، وإذا كان قد أنزله مكتوبًا إلى بيت العزة جملة واحدة في ليلة القدر، فقد كتبه كله قبل أن ينزله‏.‏

والله ـ تعالى ـ يعلم ما كان وما يكون ومالا يكون أن لو كان كيف كان يكون، وهو ـ سبحانه ـ قد قدر مقادير الخلائق، وكتب أعمال العباد قبل أن يعملوها، كما ثبت ذلك في صريح الكتاب والسنة وآثار السلف، ثم إنه يأمر الملائكة بكتابتها بعد ما يعملونها، فيقابل بين الكتابة المتقدمة على الوجود والكتابة المتأخرة عنه، فلا يكون بينهما تفاوت هكذا قال ابن عباس وغيره من السلف ـ وهو حق ـ فإذا كان ما يخلقه بائنا عنه قد كتبه قبل أن يخلقه، فكيف يستبعد أن يكتب كلامه الذي يرسل به ملائكته قبل أن يرسلهم به‏.‏

ومن قال‏:‏ إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله، كان هذا باطلا من وجوه‏:‏

منها‏:‏أن يقال‏:‏إن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد كتب التوراة لموسى بيده،فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو ـ سبحانه وتعالى ـ فيه، فإن كان محمد أخذه عن جبريل، وجبريل عن الكتاب /كان بنو إسرائيل أعلا من محمد بدرجة‏.‏

وكذلك من قال‏:‏إنه ألقى إلى جبريل المعاني، وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي، فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهامًا، وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين،كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏111‏]‏، وقال‏:‏‏{‏وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏7‏]‏ وقد أوحى إلى سائر النبيين فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلى من أخذ محمد القرآن عن جبريل؛ لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء؛ ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، وقال‏:‏ لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى به إلى الرسول‏.‏ فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد، وادعى أن أخذه عن الله أعلى من أخذ الرسول للقرآن، ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر، وأن هذا القول من جنسه‏.‏

وأيضًا، فالله ـ تعالى ـ يقول‏:‏ ‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏163،164‏]‏، ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم، وهذا يدل على أمور‏:‏ على أن الله يكلم عبده تكليما زائدًا عن الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص؛ فإن / لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص، فالتكليم هو المقسوم في قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏15‏]‏ والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس هو قسما منه، وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص، كما في قوله لموسى‏:‏‏{‏وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏13‏]‏ وقد يكون قسيم التكليم الخاص، كما في سورة الشورى، وهذا يبطل قول من يقول‏:‏ الكلام معنى واحد قائم بالذات؛ فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى والوحي العام الذي يكون لآحاد العباد‏.‏

ومثل هذا قوله في الآية الأخرى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا‏}‏، فإنه فرق بين الإيحـاء وبين التكليم من وراء الحجاب، وبين إرسال رسول يوحى بإذنه ما يشاء، فدل على أن التكليم من وراء حجاب ـ كما كلم موسى ـ أمر غير الإيحاء‏.‏

وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏2‏]‏ وقوله‏:‏‏{‏حم تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏1، 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏1، 2‏]‏ وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره‏.‏ وكذلك قوله‏:‏‏{‏يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏67‏]‏‏.‏ فإنه يدل على إثبات أن ما أنزل إليه من ربه، وأنه مبلغ مأمور بتبليغ ذلك‏.‏

/وأيضًا، فهم يقولون‏:‏ إنه معنى واحد؛ فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله، وإن سمع بعضه فقد تبعض، وكلاهما ينقض قولهم؛ فإنهم يقولون‏:‏ إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض، فإن كان ما يسمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله، وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره، فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله أو أنزل عليه شيئًا من كلامه عالمًا بجميع أخبار الله وأوامره، وهذا معلوم الفساد بالضرورة‏.‏ وإن كان الواحد من هؤلاء إنما يسمع بعضه، فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم‏.‏وأيضًا، فقوله‏:‏ ‏{‏وَكَلَّمَ اللّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏164‏]‏ ، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏143‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏52‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى‏}‏ الآيات ‏[‏طه‏:‏11ـ 13‏]‏، دليل على تكليم سمعه موسى‏.‏ والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة، ومن قال‏:‏ إنه يسمع فهو مكابر، ودليل على أنه ناداه، والنداء لا يكون إلا صوتًا مسموعًا، ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع، لا حقيقة ولا مجازًا‏.‏

وأيضا،فقد قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏8‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ القصص‏:‏30‏]‏، وقال‏:‏‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى‏}‏‏[‏النازعات‏:‏15، 16‏]‏، وقال‏:‏‏{‏هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى‏}‏ وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك، ولما فيها من معنى الظرف كما في قوله‏:‏‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ ‏[‏الجن‏:‏19‏]‏، ومثل هذا قوله‏:‏‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏65‏]‏، ‏{‏وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏74‏]‏ فإنه وقت النداء بظرف محدود، فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف، وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه‏.‏

ومثل هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏30‏]‏، وقوله‏:‏‏{‏وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏34‏]‏ وأمثال ذلك، مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين؛ فإن الكلابية ـ ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة ـ يقولون‏:‏ إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته، بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته‏.‏

ثم من هؤلاء من قال‏:‏ إنه معنى واحد؛ لأن الحروف والأصوات متعاقبة، يمتنع أن تكون قديمة‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان، وأنها مترتبة في ذاتها متقاربة في وجودها، لم تزل ولا / تزال قائمة بذاته، والنداء الذي سمعه موسى قديم أزلي، لم يزل ولا يزال‏.‏ ومنهم من قال‏:‏ بل الحروف قديمة الأعيان، بخلاف الأصوات، وكل هؤلاء يقولون‏:‏ إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق، بحيث يسمع مالم يزل ولايزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته، ولا تكليم، بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعًا لما كان موجودًا قبل سمعه، بمنزلة جعل الأعمى بصيرًا لما كان موجودًا قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى، فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي‏.‏

ولهذا يقولون‏:‏ إنه يسمع كلامه لخلقه يدل عن قول الناس إنه يكلم خلقه، وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون‏:‏ القرآن مخلوق، ويقولون عن أنفسهم‏:‏ إنهم أهل السنة الموافقون للسلف، الذين قالوا‏:‏ إن القرآن كلام الله غير مخلوق، وليس قولهم قول السلف، لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه، وقول الخلقية أقرب إلى قول السلف من وجه‏.‏

أما كون قولهم أقرب فلأنهم يثبتون لله كلاما قائما بنفس الله، وهذا قول السلف، بخلاف الخلقية الذين يقولون‏:‏ ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره؛ فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف‏.‏ وأما كون قول / الخلقية أقرب فلأنهم يقولون‏:‏ إن الله يتكلم بمشيئته وقدرته وهذا قول السلف، وهؤلاء عندهم لا يقدر الله على شيء من كلامه، وليس كلامه بمشيئته واختياره، بل كلامه عندهم كحياته، وهم يقولون‏:‏ الكلام عندنا صفة ذات لا صفة فعل‏.‏ والخلقية يقولون‏:‏ صفة فعل لا صفة ذات، ومذهب السلف أنه صفة ذات وصفة فعل معًا، فكل منهما موافق للسلف من وجه دون وجه‏.‏

واختلافهم في كلام الله ـ تعالى ـ شبيه اختلافهم في أفعاله ـ تعالى ـ ورضاه وغضبه، وإرادته وكراهته، وحبه وبغضه، وفرحه وسخطه ونحو ذلك‏.‏ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ هذه كلها أمور مخلوقة بائنة عنه ترجع إلى الثواب والعقاب‏.‏ والآخرون يقولون‏:‏ بل هذه كلها أمور قديمة الأعيان قائمة بذاته‏.‏ ثم منهم من يجعلها كلها تعود إلى إرادة واحدة بالعين متعلقة بجميع المخلوقات‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ بل هي صفات متعددة الأعيان، لكن يقول‏:‏ كل واحدة واحدة العين، قديمة قبل وجود مقتضياتها، كما قالوا مثل ذلك في الكلام، والله ـ تعالى ـ يقول‏:‏ ‏{‏ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏28‏]‏ فأخبر أن أفعالهم أسخطته، قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏55‏]‏ أي أغضبونا‏.‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏60‏]‏ إلى أمثال ذلك، مما يبين أنه سخط على الكفار لما كفروا، ورضى عن المؤمنين لما آمنوا‏.‏

/ونظير هذا اختلافهم في أفعاله ـ تعالى ـ ومسائل القدر؛ فإن المعتزلة يقولون‏:‏ إنه يفعل لحكمة مقصودة، وإرادة الإحسان إلى العباد، لكن لا يثبتون لفعله حكمة تعود إليه، وأولئك يقولون‏:‏ لا يفعل لحكمة ولا لمقصود أصلا‏.‏ فأولئك أثبتوا حكمة لكن لا تقوم به، وهؤلاء لا يثبتون له حكمة ولا قصدًا يتصف به، والفريقان لا يثبتون له حكمة ولا مقصودا يعود إليه‏.‏

وكذلك في ‏[‏الكلام‏]‏‏:‏ أولئك أثبتوا كلاما هو فعله لا يقوم به، وهؤلاء يقولون‏:‏ ما لا يقوم به لا يعود حكمه إليه‏.‏ والفريقان يمنعون أن يقوم به حكمة مرادة له، كما يمنع الفريقان أن يقوم به كلام وفعل يريده، وقول أولئك أقرب إلى قول السلف والفقهاء؛ إذ أثبتوا الحكمة والمصلحة في أحكامه وأفعاله وأثبتوا كلاما يتكلم به بقدرته ومشيئته، وقول هؤلاء أقرب إلى قول السلف؛ إذ أثبتوا الصفات، وقالوا‏:‏ لا يوصف بمجرد المخلوق المنفصل عنه الذي لم يقم به أصلا، ولا يعود إليه حكم من شيء لم يقم به، فلا يكون متكلما بكلام لم يقم به، ولا يكون حكيما كريما ورحيما بحكمة ورحمة لم تقم به، كما لا يكون عليما بعلم لم يقم به، وقديرا بقدرة لم تقم به، ولا يكون محبًا راضيًا غضبانًا بحب ورضى وغضب لم يقم به‏.‏

فكل من المعتزلة والأشعرية في مسائل كلام الله وأفعال الله، بل / وسائر صفاته، وافقوا السلف والأئمة من وجه، وخالفوهم من وجه، وليس قول أحدهما هو قول السلف دون الآخر، لكن الأشعرية في جنس مسائل الصفات، بل وسائر الصفات والقدر، أقرب إلى قول السلف والأئمة من المعتزلة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏40، التكوير‏:‏19‏]‏ وهذا يدل على أن الرسول أحدث الكلام العربي‏.‏ قيل‏:‏ هذا باطل؛ وذلك لأن الله ذكر هذا في القرآن في موضعين، والرسول في أحد الموضعين محمد، والرسول في الآية الأخرى جبريل‏.‏ قال تعالى ـ في سورة الحاقة ـ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏[‏الحاقة‏:‏40 ـ 43‏]‏ فالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وقال في سورة التكوير‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏19ـ 21‏]‏ فالرسول هنا جبريل، فلو كان أضافه إلى الرسول لكونه أحدث حروفه أو أحدث منه شيئًا لكان الخبران متناقضين، فإنه إن كان أحدهما هو الذي أحدثها امتنع أن يكون الآخر هو الذي أحدثها‏.‏

وأيضا، فإنه قال‏:‏ ‏{‏لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ‏}‏ ولم يقل‏:‏ لقول ملك ولا نبي، ولفظ ‏[‏الرسول‏]‏ يستلزم مرسلا له، فدل ذلك على أن / الرسول مبلغ له عن مرسله؛ لا أنه أنشأ منه شيئًا من جهة نفسه،وهذا يدل على أنه أضافه إلى الرسول؛ لأنه بلغه وأداه، لا لأنه أنشأ منه شيئًا وابتداه‏.‏

وأيضًا، فإن الله قد كفر من جعله قول البشر بقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏18ـ 25‏]‏ ومحمد بشر، فمن قال‏:‏ إنه قول محمد فقد كفر، ولا فرق بين أن يقول‏:‏ هو قول بشر أو جني أو ملك، فمن جعله قولاً لأحد من هؤلاء فقد كفر، ومع هذا فقد قال تعالى‏:‏‏{‏إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ‏}‏ فجعله قول الرسول البشري مع تكفيره من يقول‏:‏ إنه قول البشر، فعلم أن المراد بذلك أن الرسول بلغه عن مرسله، لا أنه قول له من تلقاء نفسه، وهو كلام الله الذي أرسله، كما قال تعالى‏:‏‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏، فالذي بلغه الرسول هو كلام الله لا كلام الرسول‏.‏

ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالمواسم ويقول‏:‏ ‏(‏ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي، فإن قريشًا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي‏)‏ رواه أبو داود وغيره، والكلام كلام من /قاله مبتدئا لا كلام من قاله مبلغًا مؤديًا، وموسى سمع كلام الله من الله بلا واسطة، والمؤمنون يسمعه بعضهم من بعض، فسماع موسى سماع مطلق بلا واسطة، و سماع الناس سماع مقيد بواسطة، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏51‏]‏‏.‏

ففرق بين التكليم من وراء حجاب ـ كما كلم موسى ـ وبين التكليم بواسطة الرسول ـ كما كلم الأنبياء بإرسال رسول إليهم ـ والناس يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بكلام تكلم به بحروفه ومعانيه بصوته صلى الله عليه وسلم، ثم المبلغون عنه يبلغون كلامه بحركاتهم وأصواتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏نَضَّر الله امرأ سمع منا حديثًا فبَلَّغه كما سمعه‏)‏، فالمستمع منه يبلغ حديثه كما سمعه، لكن بصوت نفسه لا بصوت الرسول، فالكلام هو كلام الرسول تكلم به بصوته، والمبلغ بلغ كلام الرسول، لكن بصوت نفسه، وإذا كان هذا معلومًا فيمن يبلغ كلام المخلوق فكلام الخالق أولى بذلك‏.‏

ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏6‏]‏ وقال النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏زينوا القرآن بأصواتكم‏)‏، فجعل الكلام كلام الباري وجعل الصوت الذي يقرأ به العبد صوت القارئ، وأصوات العباد ليست هي عين الصوت الذي ينادى / الله به ويتكلم به، كما نطقت النصوص بذلك، بل ولا مثله؛ فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فليس علمه مثل علم المخلوقين، ولا قدرته مثل قدرتهم، ولا كلامه مثل كلامهم، ولا نداؤه مثل ندائهم، ولا صوته مثل أصواتهم‏.‏

فمن قال عن القرآن الذي يقرؤه المسلمون‏:‏ ليس هو كلام الله، أو هو كلام غيره، فهو ملحد مبتدع ضال‏.‏ ومن قال‏:‏ إن أصوات العباد أو المداد الذي يكتب به القرآن قديم أزلي فهو ملحد مبتدع ضال، بل هذا القرآن هو كلام الله، وهو مثبت في المصاحف، وهو كلام الله مبلغًا عنه مسموعا من القراء، ليس هو مسموعا منه، والإنسان يرى الشمس والقمر والكواكب بطريق المباشرة، ويراها في ماء أو مرآة، فهذه رؤية مقيدة بالواسطة، وتلك رؤية مطلقة بطريق المباشرة، وكذلك الكلام يسمع من المتكلم به بطريق المباشرة، ويسمع من المبلغ عنه بواسطة، والمقصود بالسماع هو كلامه في الموضعين، كما أن المقصود بالرؤية هو المرئي في الموضعين‏.‏

فمن عرف ما بين الحالين من الاجتماع والافتراق، والاختلاف والاتفاق، زالت عنه الشبهة التي تصيب كثيرًا من الناس في هذا الباب، فإن طائفة قالت‏:‏هذا المسموع كلام الله، والمسموع صوت العبد وصوته مخلوق، فكلام الله مخلوق، وهذا جهل‏:‏ فإنه مسموع من / المبلغ،ولا يلزم إذا كان صوت المبلغ مخلوقًا أن يكون نفس الكلام مخلوقًا‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ هذا المسموع صوت العبد وهو مخلوق، والقرآن ليس بمخلوق، فلا يكون هذا المسموع كلام الله، وهذا جهل؛ فإن المخلوق هو الصوت لا نفس الكلام الذي يسمع من المتكلم به ومن المبلغ عنه‏.‏

وطائفة قالت‏:‏هذا كلام الله وكلام الله غير مخلوق، فيكون هذا الصوت غير مخلوق وهذا جهل؛ فإنه إذا قيل‏:‏ هذا كلام الله فالمشار إليه هو الكلام من حيث هو هو، وهو الثابت إذا سمع من الله وإذا سمع من المبلغ عنه، وإذا قيل للمسموع‏:‏ إنه كلام الله فهو كلام الله مسموعًا من المبلغ عنه لا مسموعا منه، فهو مسموع بواسطة صوت العبد، وصوت العبد مخلوق‏.‏ وأما كلام الله نفسه فهو غير مخلوق حيث ما تصرف‏.‏ وهذه نكت قد بسط الكلام فيها في غير هذا الموضع‏.‏

/ فصــل

فإن قيل‏:‏ ما منشأ هذا النزاع والاشتباه والتفرق والاختلاف‏؟‏ قيل‏:‏ منشؤه هو الكلام الذي ذمه السلف وعابوه، وهو الكلام المشتبه المشتمل على حق وباطل، فيه ما يوافق العقل والسمع، وفيه ما يخالف العقل والسمع، فيأخذ هؤلاء جانب النفي المشتمل على نفي الحق والباطل، وهؤلاء جانب الإثبات المشتمل على إثبات حق وباطل، وجماعه هو الكلام المخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف، فكل كلام خالف ذلك فهو باطل، ولا يخالف ذلك إلا كلام مخالف للعقل والسمع، وذلك أنه لما تناظروا في مسألة حدوث العالم وإثبات الصانع، استدلت الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من طوائف أهل الكلام على ذلك، بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث‏.‏

ثم إن المستدلين بذلك على حدوث الأجسام، قالوا‏:‏ إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، ثم تنوعت طرقهم في المقدمة الأولى‏:‏ فتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلوا عن الحركة والسكون وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن / الاجتماع والافتراق وهما حادثان، وتارة يثبتونها بأن الأجسام لا تخلو عن الأكوان الأربعة‏:‏ الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون، وهي حادثة‏.‏ وهذه طرق المعتزلة ومن وافقهم على أن الأجسام لا تخلو عن بعض أنواع الأعراض‏.‏

وتارة يثبتونها بأن الجسم لا يخلو من كل جنس من الأعراض عن عرض منه، ويقولون‏:‏ القابل للشيء لا يخلو عنه وعن ضده، ويقولون‏:‏ إن الأعراض يمتنع بقاؤها؛ لأن العرض لا يبقى زمانين، وهذه الطريقة هي التي اختارها الآمدي، وزيف ما سواها، وذكر أن جمهور أصحابه اعتمدوا عليها، وقد وافقهم عليها طائفة من الفقهاء من أصحاب الأئمة الأربعة، كالقاضي أبي يعلى وأبي المعالي الجويني، وأبي الوليد الباجي وأمثالهم‏.‏

وأما الهشامية والكرامية وغيرهم من الطوائف، الذين يقولون بحدوث كل جسم، ويقولون‏:‏ إن القديم تقوم به الحوادث، فهؤلاء إذا قالوا‏:‏ بأن ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم موافقة للمعتزلة في هذا الأصل، فإنهم يقولون‏:‏ إن الجسم القديم يخلو عن الحوادث بخلاف الأجسام المحدثة، فإنها لا تخلو عن الحوادث‏.‏

والناس متنازعون في ‏[‏السكون‏]‏، هل هو أمر وجودي أو عدمي‏؟‏ / فمن قال‏:‏ إنه وجودي قال‏:‏ إن الجسم الذي لا يخلو عن الحركة والسكون إذا انتفت عنه الحركة قام به السكون الوجودي، وهذا قول من يحتج بتعاقب الحركة والسكون على حدوث المتصف بذلك، ومن قال‏:‏ إنه عدمي لم يلزم من عدم الحركة عن المحل ثبوت سكون وجودي، فمن قال‏:‏ إنه تقوم به الحركة أو الحوادث بعد أن لم تكن مع قوله بامتناع تعاقب الحوادث، كما هو قول الكرامية وغيرهم ـ يقولون‏:‏ إذا قامت به الحركة لم يعدم بقيامها سكون وجودي، بل ذلك عندهم بمنزلة قولهم مع المعتزلة والأشعرية وغيرهم أنه يفعل بعد أن لم يكن فاعلا، ولا يقولون‏:‏ إن عدم الفعل أمر وجودي ـ كذلك الحركة عند هؤلاء، وكان كثير من أهل الكلام يقولون‏:‏ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث بناءً على أن هذه مقدمة ظاهرة فإن ما لا يسبق الحادث فلابد أن يقارنه أو يكون بعده، وما قارن الحادث فهو حادث وما كان بعده فهو حادث‏.‏

وهذا الكلام مجمل، فإنه إذا أريد به ما لا يخلو عن الحادث المعين أو ما لا يسبق الحادث المعين، فهو حق بلا ريب، ولا نزاع فيه، وكذلك إذا أريد بالحادث جملة ما له أول أو ما كان بعد العدم ونحو ذلك، وأما إذا أريد بالحوادث الأمور التي تكون شيئًا بعد شيء لا إلى أول‏.‏ وقيل‏:‏ إنه ما لا يخلو عنها وما لم يخل عنها فهو حادث لم يكن ذلك ظاهرًا ولا بينا، / بل هذا المقام حار فيه كثير من الأفهام، وكثر فيه النزاع والخصام؛ ولهذا صار المستدلون بقولهم‏:‏ ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، يعلمون أن هذا الدليل لا يتم إلا إذا أثبتوا امتناع حوادث لا أول لها، فذكروا في ذلك طرقًا قد تكلمنا عليها في غير هذا الموضع‏.‏

وهذا الأصل تنازع الناس فيه على ثلاثة أقوال‏:‏

فقيل‏:‏ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث، وبامتناع حوادث لا أول لها مطلقًا، وهذا قول المعتزلة ومن اتبعهم من الكرامية والأشعرية،ومن دخل معهم من الفقهاء وغيرهم‏.‏

وقيل‏:‏ بل يجوز دوام الحوادث مطلقا، وليس كل ما قارن حادثًا بعد حادث لا إلى أول يجب أن يكون حادثًا، بل يجوز أن يكون قديمًا، سواء كان واجبًا بنفسه أو بغيره، وربما عبر عنه بالعلة والمعلول، والفاعل والمفعول ونحو ذلك، وهذا قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم والأفلاك،كأرسطو وأتباعه مثل ثامسطيوس، والاسكندر الإفريدوسي وبرقلس، والفارابي، وابن سينا وأمثالهم‏.‏

وأما جمهور الفلاسفة المتقدمين على أرسطو، فلم يكونوا يقولون / بقدم الأفلاك‏.‏ ثم الفلاسفة من هؤلاء وهؤلاء متنازعون في قيام الصفات والحوادث بواجب الوجود على قولين معروفين لهم، وإثبات ذلك قول كثير من الأساطين القدماء، وبعض المتأخرين، كأبي البركات صاحب المعتبر وغيره، كما بسطت أقوالهم في غير هذا الموضع‏.‏

وقيل‏:‏ بل إن كان المستلزم للحوادث ممكنًا بنفسه، وأنه هو الذي يسمى مفعولا ومعلولا، ومربوبًا ونحو ذلك من العبارات وجب أن يكون حادثًا، وإن كان واجبًا بنفسه لم يجز أن يكون حادثًا، وهذا قول أئمة أهل الملل وأساطين الفلاسفة، وهو قول جماهير أهل الحديث، وصاحب هذا القول يقول ما لا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث، أو ما لا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث؛ لأنه إذا كان مفعولا مستلزما للحوادث امتنع أن يكون قديمًا؛ فإن القديم المعلول لا يكون قديمًا إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله، بحيث يكون معه أزليا لا يتأخر عنه، وهذا ممتنع‏.‏

فإن كونه مفعولا ينافي كونه قديمًا، بل قدمه ينافي كونه ممكنا، فلا يكون ممكنا إلا ما كان محدثًا عند جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وهذا قول الفلاسفة القدماء قاطبة كأرسطو وأتباعه، وإنما أثبت ممكنًا قديمًا بعض متأخريهم كابن سينا وأتباعه، خالفوا في /ذلك الفلاسفة القدماء قاطبة، كما خالفوا في ذلك جماهير العقلاء من سائر الطوائف؛ ولهذا تناقضوا في أحكام الممكن، وورد عليهم فيه من الأسئلة ما لا جواب لهم عنه، كما ذكرت ذلك في الرد على الأربعين وغير ذلك من المواضع‏.‏

وما يدعى من أن المعلول قد يقارن علته إنما يعقل فيما كان شرطًا لا فاعلا،كقولهم‏:‏ حركت يدي فتحرك الخاتم، فإن حركة اليد شرط في تحريك الخاتم، والشرط والمشروط قد يتلازمان، وليست فاعلة مبدعة لها، وكذلك الشعاع مع النار والشمس ونحو ذلك، وأما ما يكون فاعلا فلا يتصور أن يقارنه مفعوله في الزمان، سواء كان فاعلا بالإرادة أو قدر أنه فاعل بغير إرادة، وسواء سمى فاعلا بالذات أو بالطبع، أو ما قدر، لا يتصور أن يكون المفعول مقارنًا لفاعله في الزمان، كما اعترف بذلك جماهير العقلاء من الأولين والآخرين‏.‏

وأرسطو وأتباعه لم يقولوا‏:‏ إن الفلك مفعول للرب، ولا أنه معلول لعلة فاعلية أبدعت ذاته، بل زعموا أنه قديم واجب بنفسه، وأن له علة غائية يتشبه بها، نحو حركة المعشوق يجب أن يقتدى به، والفلك عندهم يتحرك للتشبه بتلك العلة؛ ولهذا قالوا‏:‏ الفلسفة‏:‏ هي التشبه بالإله بحسب الطاقة، وقولهم ـ وإن كان فيه من الكفر والجهل بالله أعظم مما في قول ابن سينا وأتباعه، وفيهم من التناقض في الإلهيات / ما ليس هذا موضع بسطه ـ فلم يتناقضوا في إثبات ممكن قديم كتناقض متأخريهم‏.‏

ولهذا لما كانت هذه القضية مستقرة في فطر العقلاء، وكان مجرد العلم والخبر بأن السموات مخلوقة أو مصنوعة أو مفعولة موجبًا للعلم بأنها حادثة، لا يخطر بالفطر السليمة إمكان كونها مفعولة لفاعل فعلها، مع كونها قديمة لم تزل معه؛ ولهذا لم يدع هذا إلا هذه الشرذمة القليلة من المتفلسفة‏.‏

وأيضًا، فإن ما استلزم الحوادث يمتنع أن يكون فاعله موجبًا بذاته يستلزم معلوله في الأزل؛ فإن الحوادث المتعاقبة شيئًا بعد شيء، لا يكون مجموعها في الأزل، ولا يكون شيء منها أزليًا، بل الأزلي هو دوامها واحدًا بعد واحد، والموجب بذاته المستلزم لمعلوله في الأزل لا يكون معلوله شيئًا بعد شيء، سواء كان صادرًا عنه بواسطة أو بغير واسطة؛ فإن ما كان واحدا بعد واحد يكون متعاقبًا حادثًا شيئا بعد شيء، فيمتنع أن يكون معلولا مقارنًا لعلته في الأزل بخلاف ما إذا قيل‏:‏ إن المقارن لذلك هو الموجب بذاته الذي يفعل شيئًا بعد شيء، فإنه على هذا التقدير لا يكون في الأزل موجبًا بذاته، ولا علة سابقة تامة لشيء من العالم، فلا يكون معه في الأزل من المخلوقات شيء لكن فاعليته للمفعولات تكون شيئًا بعد شيء، وكل مفعول يوجد عنده وجود كمال فاعليته، /إذ المؤثر التام المستلزم لجميع شروط التأثير لا يتخلف عنه أثره، إذ لو تخلف لم يكن مؤثرًا تامًا، فوجود الأثر يستلزم وجود المؤثر التام، ووجود المؤثر التام يستلزم وجود الأثر، فليس في الأزل مؤثر تام، فليس مع الله شيء من مخلوقاته قديم بقدمه، والأزل ليس هو حدًا محدودًا ولا وقتا معينا، بل كل ما يقدره العقل من الغاية التي ينتهى إليها فالأزل قبل ذلك، كما هو قبل ما قدره، فالأزل لا أول له، كما أن الأبد لا آخر له‏.‏

وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول‏:‏ ‏(‏أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء‏)‏، فلو قيل‏:‏ إنه مؤثر تام في الأزل لشيء من الأشياء لزم أن يكون مقارنا له دائمًا، وذلك ينافي كونه مفعولا له، وإنما يصح مثل هذا في الصفة اللازمة للموصوف، فإنه إذا قيل‏:‏ الذات مقتض تام للصفة كان المعنى أن الذات مستلزمة للصفة، ليس المراد بذلك أن الذات مبدعة للصفة؛ فإنه إذا تصور معنى المبدع امتنع في المقارن بصريح المعقول، سواء سمى علة فاعلة أو خالقًا أو غير ذلك،وامتنع أن يقوم بالأثر شيء من الحوادث؛لأن كل حادث يحدث لا يحدث إلا إذا وجد مؤثره التام عند حدوثه،وإن كانت ذات المؤثر موجودة قبل ذلك، لكن لابد من كمال وجود شروط التأثير عند وجود الأثر / وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، وتخلف المعلول عن العلة التامة، ووجود الممكن بدون المرجح التام‏.‏وكل هذا ممتنع، فامتنع أن يكون مؤثرًا لشيء من الحوادث في الأزل، وامتنع أن يكون مؤثرًا في الأزل فيما يستلزم الحوادث؛ لأن وجود الملزوم بدون اللازم محال، فامتنع أن يكون المفعول المستلزم للحوادث قديمًا‏.‏

وإذا قيل‏:‏ ذاته مقتضية للحادث الثاني بشرط انقضاء الأول‏.‏ قيل‏:‏ فليس هو مقتضيًا لشيء واحد دائمًا، فلا يكون معه قديم من مفعولاته، وقيل ـ أيضًا ـ‏:‏ هذا إنما يكون إذا كانت لذاته أحوال متعاقبة تختلف المفعولات لأجلها، فأما إذا قدر ألا يقوم بها شيء من الأحوال المتعاقبة، بل حالها عند وجود الحادث كحالها قبله، كان امتناع فعله للحوادث المتعاقبة البائنة أعظم من امتناع فعله لحادث معين، فإذا كان الثاني ممتنعًا عندهم فالأول أولى بالامتناع، ومتى كان للذات أحوال متعاقبة تقوم بها بطلت كل حجة لهم على قدم شيء من العالم، وامتنع ـ أيضًا ـ قدم شيء من العالم إذا كان المفعول لابد له من فاعل، والفعل الحادث لا يكون مفعوله إلا حادثًا، وهذا مبسوط في غير هذا الموضع‏.‏